غرفة الصيد البحري المتوسطية – طنجة
السياسة فن الممكن، هكذا عرفها علماء السياسة حتى يترسخ في ذهن الفاعلين في السياسة والمهتمين بها، ألا مكان للحقيقة المطلقة في ساحة السياسة، وأن الذي يحمل أفكارا أو أهدافا جاهزة، يريد أن تتحقق بالتمام والكمال في واقع السياسة، فإنه يعيش في حلم لا يكاد يستفيق منه حتى تصدمه حقائق السياسة كما تجري على الأرض لا كما يتصورها في ذهنه.
مناسبة هذا التذكير بمفهوم السياسة، هي الأشكال الجديدة من النقاشات التي بدأت تطغى في بعض الأوساط الجمعوية، والتي تتسم بقلة مرونتها من جهة، وميلها نحو مصادرة الآراء الأخرى من جهة ثانية، أي بروز أشكال من السلطوية الفكرية في طريقة النقاش داخل بعض الأوساط الجمعوية لاسيما منها التي نشأت حديثا.
مرت علي تجربة ثلاثين سنة من العمل الجمعوي، عاصرت فيها سبع وزراء تعاقبوا على وزارة الصيد البحري، وقد كانت الميزة التي تطبع العمل العام، هو الانسجام بين العمل المؤسساتي والعمل المدني، بل كان الحوار الهادئ والعميق هو الخيار الذي لا يعلى عليه، لأن الجميع كان يبحث عن حل للمشاكل المعروضة، وكانت المشكلة في بعض الأحيان هو البحث فقط عن فضاء للحوار للتوصل إلى حلول للمشكلات المطروحة.
اليوم، تغيرت الأمور كثيرا، ففي الوقت الذي صار فيه للقطاع رؤية استراتيجية، وقوانين منظمة، وتم إعادة هيكلته، وفي الوقت الذي فتحت فيه الوزارة جميع قنوات الحوار، وتقوت فعالية الغرف، وصارت تمارس دورها الجدي والمسؤول في النهوض بالقطاع، وتقديم المشورة ونقل هموم المهنيين للقطاع الوصي والدفاع عن مصالحهم، في هذا الوقت بالذات، صرنا نرى بعض سلوكات غريبة تستبد ببعض التعبيرات الجمعوية، فتحملها على المزايدة السياسية، وممارسة ألوان من الشعبوية، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ومصادرة رأي الآخرين، وعدم ترك أي مساحة للحوار الهادئ الرصين.
ليس الهدف من هذه المقالة الرد على هذه السلوكات التي تسيء إلى المهنيين، ولكن الهدف من ذلك هو محاورة القطاع الأوسع من المهنيين، حتى يرفعوا درجة اليقظة، ويدقوا ناقوس الخطر في حالة ما إذا صارت هذه السلوكات هي المهيمنة على العمل الجمعوي.
في دولة مؤسساتية كالمغرب، يصعب أن تحل الحقيقة المطلقة محل الرأي النسبي الذي يؤخذ منه ويرد، كما يصعب أن يستبدل الحوار بلغة المصادرة والإقصاء، ويستحيل أن تصير الأقلية مستقوية على الأغلبية بمجرد ممارسة شعبوية لا سند لها من الرأي السديد والاقتراحات البناءة.
كل الناس تحسن الشعبوية، ذلك أن شأنها بسيط، فيكفي أن تأخذ المسؤولين فتجرحهم أو السياسات فتنسفها بالكلام ، وتزعم أن الجميع فاسد، وأنه لو حورب الريع والفساد لانتهت المشكلة، وتم النهوض بالقطاع، والأمر يزداد بساطة، حين يكون الشعبوي أو مدعي الحقيقة المطلقة، بعيدا عن المسؤولية، يركب المنصات ويلقي بالتهم ويطلق الرصاصتن واحدة تلو الأخرى، بل الأبسط من ذلك، حين لا تكون له أي مصالح يعبر عنها، ففي هذه الحالة، فإنه لا يهمه سؤال الربح والخسارة في السياسة، بقدر ما يهمه أن يكون منسجما مع شعبويته، مستقويا بحقيقته المطلقة، لا يهمه بعد ذلك أن تسقط الجدران والسقوف والسواري التي بنيت لعشرات السنين، ولا حاجة له في الحوار الهادئ، لأنه ببساطة ليست لديه فكرة يستطيع أن يقنع بها.
المشكلة في الشعبوية والمزايدة، أنها لا تقدم حلا، سوى أن تجعل الناس يستسهلون العمل العام مع ثقل مسؤوليته، ويتصورون أن بإمكان أي أحد أن يؤسس جمعية أو تنسيقية، وأن يصبح، اليوم وقبل الغد، زعيما تلتف حوله بعض المجموعات، لأن الأمر في نظرهم لا يتطلب سوى أن يزيد قليلا في جرعة الشعبوية، ليكون حظه وافرا من الجمهور، لتكون المحصلة هي تناسل الجمعيات وتمزقها وتشرذمها، وتفكك الجسم المهني للقطاع.
إن حالة التمزق والتشرذم التي وصل إليها الجسم المهني اليوم، ليدعونا إلى إعادة تشخيص أسباب هذه الظاهرة، للتوقف عند مخاطر التخلي عن الحوار الهادئ والرزين في تدبير المشكلات، وإحداث قطيعة مع الشعبوية والمزايدة في العمل الجمعوي داخل القطاع.
هناك خاصية داخل قطاع الصيد البحري تشجعنا جميعا على أن يسود بيننا التفكير العقلاني، فهذا القطاع تنتظمه مصالح حيوية، ولا يمكن أن يكون التواصل ممكنا بدون أن يكون الخطاب المستعمل مقنعا بلغة المصالح، أي وجه النفع الذي يتحقق للمهنيين، والضرر الذي يلحق بهم من جراء هذه السياسة أو تلك القرارات، مما يعني أن الذي يستطيع الإقناع لا يمكن أن يتهرب من الحوار الهادئ الرزين، وأن الذي يصادر حق الناس في الحديث، ويزايد عليهم، ويشهر في وجههم الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش، هو في واقع الأمر ضعيف الحجة، ليس له الثقة في نفسه، فبالأحرى أن يستقطب عطف الناس من حوله.
نأمل بهذا النقاش أن ننبه على أهمية استعادة القيم التي تساعدنا على التعاون لتدبير مشاكل القطاع بالطرق الحضارية: قيم الحوار الهادئ، والمشاركة بالرأي من كل المواقع، واحترام آراء الآخرين، والحرص على إيجاد مساحات للتوافق بين الآراء المختلفة، والبحث الدائم عن التكامل بين العمل المؤسساتي والعمل المدني، وجعل العمل الجمعوي قوة اقتراحية داعمة للنهوض بقطاع الصيد البحري.
السيد: يوسف بنجلون
رئيس غرفة الصيد البحري المتوسطية