“اختفى الميرو بأحجامه الكبيرة، فجأة من عدة مناطق بحرية بالبحر الأبيض المتوسط”، هكذا يعلق أحد بحار في عقده الخامس خلال اجتماع رسمي ضم مختلف مهنيي الصيد البحري بشمال المغرب، والذي يعيش من مصطادات هذا النوع من السمك إلى جانب زملاءه البحارة، وهو الذي يدفع الضريبة وأجرة كراء محل للمعدات البحرية، وأجرة العاملين فوق قاربه، ومصاريف التأمين، وأجرة الكراء وملبس ومأكل أبنائه.
هذه الكلمات دفعتنا للبحث عن المسببات التي جعلت سمكا يطلق عليه ب”الميرو”، يبدأ في الاختفاء تدريجيا ببعض سواحل البحر الأبيض المتوسط.
هذا النوع من السمك الذي يصل عمره ليوازي عمر الإنسان، حيث ينحصر عمره مابين 50 إلى 60 عاما، كما أن دولا بالبحر الأبيض المتوسط كتونس وحكومة جبل طارق، سبق أن وضعت صورته خلال تسعينيات القرن الماضي، ضمن الطابع البريدي نظرا لقيمته وأهميته بالمحيط.
أصابع الاتهام
يوجه كل البحارة الذين صادفناهم أثناء إنجاز هذا التحقيق الاستقصائي ، أصابع الاتهام إلى هواة الغطس والصيد تحت الماء على أنهم يستهدفون هذا النوع من السمك بشكل عشوائي، وبدون قواعد علمية ولا ضوابط متعلقة باحترام توقيت صيده، وهم بذلك ضمن دائرة الاتهام بخصوص استهداف هذا النوع من السمك، في وقت لايمكن كذلك إغفال معدات البحارة الصيادين المستعملة في الصيد، مما يتسبب في بداية اختفاء هذا النوع من السمك الذي يكثر عليه الطلب في المطاعم، نظرا لقيمته الغذائية والسوقية، حيث يصل ثمنه إلى 400 درهم للكيلوغرام الواحد، ما يعادل 40 دولارا، ولهذا يتسلح هؤلاء الغواصون الهواة، بكل الوسائل من أسلحة للصيد تحت الماء وبنادق مائية، وقنينات الأكسجين ومستلزمات الغوص لأمتار تحت الماء قد تصل ل 100 متر، فكلما ازداد العمق زادت فرصة العثور على “الميرو الوحش” كما يقول أحد البحارة.
يشير مصطفى مزروع مهني بحار، بمنطقة واد لاو التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن مدينة طنجة، بنحو 104 كيلومترا، أن الصيد العشوائي من طرف الغواصين بات يهدد هذا النوع من السمك، مؤكدا أن منطقته التي يعتبر الصيد البحري محركها الاقتصادي الأول، اندثر فيها “الميرو” الذي كانت معروفة به، وبالتالي غير الصيادين وجهتهم نحو صيد أنواع أخرى من الأسماك والقشريات، ولم يعد الميرو هدفهم الرئيسي بسبب بداية اختفائه بمنطقة واد لاو الساحلية.
“الميرو” في نقرة
للوصول إلى الحقائق التي جاءت على لسان البحار المهني مصطفى مزروع، اتجهنا إلى البحث عن غواصين مستعدون للحديث أو الرد على هذه الاتهامات، لكن غالبيتهم يرفض الحديث عن هذا الجانب، أحدهم يتوفر على صفحة فيسبوكية كالمئات، إلى جانب قناة على اليوتيوب، قال “أن صيد الميرو بمثابة هوايته، وأنه لايبيع “، لكنه رفض الغوص أكثر في تفاصيل الموضوع بعد دردشة جمعتنا معه على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك.
بنقرة واحدة على الموقع العالمي “اليوتيوب”، يتبين أنها تعج بالقنوات الخاصة بصيد مثل هذه الأسماك، حيث يتم التباهي أحيانا بأحجام هذا السمك، دون الاكتراث لتوقيت صيده، ولا حجمه، ولا سنه، وبالتالي المزيد من تحقيق الأرباح عبر المشاهدات على حساب هذا النوع السمكي الودود، فضلا عن قيمته السوقية التي ترتفع خصوصا في فصل الصيف، حيث يكثر الإقبال على مطاعم الأسماك بطول المحيط المحلي لسواحل البحر الأبيض المتوسط، كما يجلب ملايين المشاهدات للأشخاص الفضوليين الذين يعشون الصيد تحت الماء.
ويؤكد بعض العارفين في القطاع على أن سمك “الميرو” الذي يأتي من الغطس، يحمل ثقبا بمحاذاة عينيه، وهو من آثار الصيد بواسطة بندقية مائية، في حين أن النوع الآخر المتعلق بالصيد القانوني من طرف البحارة الصيادين، يكون حاملا لآثار الصنارة فقط .
وتبين حسب زيارات ميدانية لبعض المطاعم بمدينة طنجة بشمال المغرب، وجود هذا النوع بالفعل من سمك الميرو، والذي يحمل علامات وثقب بين عينية حيث يتأتى انطلاقا من الصيد العشوائي عبر الغطس، ويتم بيعه في السوق السوداء من طرف الغطاسين إلى أرباب المطاعم بأثمنة خارج أسواق السمك الرسمية التابعة لمصالح الدولة، وبالتالي التملص من الضرائب والإضرار بالاقتصاد المحلي.
أدوات غير شرعية
يقول يونس البغديدي رئيس جمعية أبطال الفنيدق للصيد تحت الماء وحماية البيئة، “هناك للأسف بعض الممارسين خارج الجمعيات يستعملون أدوات غير شرعية لصيد أسماك “الميرو” وغيرها من الأسماك، كما أن الخطر الأكبر بالنسبة له هو الصيد العشوائي بالشباك الغير القانونية التي تمرر كل ما يعلق فيها، وهنا سبق وأن نبهنا لهذا الأمر أن صغار أسماك الميرو تعلق في شباك الصيد بالمئات، وهناك فترات الراحة البيولوجية يجب احترامها للعديد من الأسماك من بينها سمك الميرو “.
رئيس الجمعية نفسه، يضيف أن ” ممارسي الصيد تحت الماء داخل الجمعيات يشاركون في أنشطة حماية البيئة البحرية وهم الوحيدين الذين يعملون على انتشال الشباك العالقة في قاع البحر ومخلفات الصيد البحري و النفايات البلاستيكية، وذلك من اجل تحقيق بيئة سليمة كما أنهم ينخرطون في برامج وطنية ودولية في حماية البيئة البحرية و تشجيع التعاونيات في تقديم مشاريع تربية الأحياء المائية و الغوص السياحي و السياحة البحرية وكذا تحسيس البحارة في حماية السلاحف البحرية و الدلافين لما لها من دور مهم في تحقيق التوازن في البيئة البحرية “.
استنزاف ومقترحات
القلاقل المتعلقة بصيد سمك “الميرو” بطرق عشوائية بالبحر الأبيض المتوسط، وصلت تداعياتها لمقر غرفة الصيد البحري المتوسطية، وهي بالمناسبة هيئة دستورية حكومية، تمثل البحارة عبر 35 منتخبا وتجرى انتخابات كل خمس سنوات لتمثيل البحارة بهذه الغرفة التي تعتبر مؤسسة دستورية يُأخذ برأيها ويتم استشارتها قبل إصدار أي قرار يهم قطاع الصيد البحري بشمال المغرب أو عمومه، إلى جانب أربعة ثلاثة غرف مماثلة تتوزع على عموم التراب المغربي.
وخلال الاجتماعات السنوية للغرفة التي انعقدت سنة 2022، تم التطرق إلى هذا الإشكال بقوة، ليتم بعدها توجيه مراسلة في الموضوع لوزارة الصيد البحري كجهة حكومية وصية على القطاع .
وقالت الغرفة في مراسلة في الموضوع، “أن من مخرجات الجمعية العامة للغرفة في دورتها الأولى المنعقدة يوم 25 مارس 2022، المطالبة في كثير من المداخلات بوضع حد لجشع الغطاسة المتواجدين بكثرة على طول البحر الأبيض المتوسط والذين يمارسون الصيد غير القانوني وغير المصرح به وغير المنظم”.
وضمن نفس المراسلة اقترحت الغرفة، من أجل الحفاظ على هذا المنتوج السمكي ذو القيمة التجارية والغذائية العاليتين، “المطالبة بإنجاز دراسة من طرف المعهد الوطني للبحث في الصيد البحري حول مخزون سمك الميرو المتواجد بالبحر الأبيض المتوسط”، و “إعداد برنامج تهيئة خاص للحفاظ على هذا النوع من السمك المتواجد فقط بالبحر الأبيض المتوسط”، ثم “المطالبة بتعليق منح رخص الغطس مؤقتا إلى حين سماح الظروف بذلك”. وضرورة “تشديد المراقبة بتنسيق مع القوات المساعدة، الدرك الملكي والشرطة القضائية لوضع حد لممارسات هذا النوع من الصيد العشوائي الغير القانوني وغير المصرح به والحفاظ على هذا النوع من السمك من الانقراض”.
وضمن المقترحات الواردة في مراسلة الغرفة، “تشديد المراقبة داخل موانئ الترفيه بحيث توجد مجموعة من الغطاسين الذين يمتلكون مراكب ترفيه يستغلونها للولوج إلى أماكن الغطس لاصطياد الميرو.. وغيرها من أنواع أخرى من الأسماك النبيلة ذات القيمة العالية”.
الميرو مرآة البحر
أن يعيش سمك داخل أعماق المحيطات المحلية، لمايناهز 50 عاما، يثبت شيئا واحدا، وهو الصحة الجيدة للمحيط حسب خبراء المعهد العلمي للبحث في الصيد البحري بالمغرب، وبذلك فإن المنطقة التي يستوطنها “الميرو” تصنف كمرآة للبحر، وأنها تتمتع بصحة بيئية جيدة، وخالية من التلوث وضجيج السفن .
في هذا الصدد، يقول السعيد بنشوشة بيولوجي بالمعهد العلمي للبحث في الصيد بطنجة، الذي يعتبر المؤسسة الوحيدة المكلفة بتتبع الأنواع السمكية علميا بالسواحل المغربية، وتابع للمعهد المركزي بالعاصة المغربية الرباط، (يقول) توجد بالسواحل المغربية نحو ثمانية أنواع من أسماك “الميرو”، ولكن أبرزها ثلاثة أنواع هي النوع الأبيض والأحمر الداكن، ثم نوع آخر يتضمن نقاط بيضاء أو مايصطلح عليه علميا بميرو برون “mirou brun “، الأخير الممنوع صيده على طول الساحل المغربي.
ويشير بنشوشة، أنه خلال تسعينيات القرن الماضي، عرف المحيط المحلي إجهادا كبيرا في الصيد، ما أدى إلى تهديد هذا النوع من الأسماك وبالتالي وجود إمكانية علمية حول تصنيفه ضمن الأسماك المهددة بالانقراض، ووفقا للمعلومات نفسها، فإن المعهد شرع في تتبع هذا النوع من الأسماك بالبحر الأبيض المتوسط انطلاقا من ميناء طنجة.
وتبين وفق بنشوشة، أن “الميرو”، يعرف بتوالده في فترة الصيف، وبالتالي يتم إصدار قرارات بمنع صيد مثل هذه الأسماك أثناء هذه الفترة حفاظا على نموه، وقد ساعدت الشعاب الاصطناعية التي تم زرعها مؤخرا بسواحل البحر الأبيض المتوسط، في تكاثر هذا النوع من الأسماك، بعدما تبين أنها تحتاج إلى الهدوء، كما أنها تلد على شكل مجموعات أحيانا قد تتجاوز ال 50 سمكة دفعة واحدة.
ويضيف بنشوشة أن دورة حياته شبه معقدة، فإلى جانب عيشها لمدة طويلة، فإنها كذلك تتحول الأنثى إلى ذكر في ظرف وجيز، ولذا فإن صيد “الميرو” بشكل عشوائي قد يهدد تواجده بالمحيط المحلي، سيما وأنه سمك ودود يقترب من الإنسان كلما اقترب منه أيضا، وهذا مايزيد من فرص صيده.
فراغ قانوني
في ظل غياب إحصاءات رسمية حول التتبع العلمي لسمك “الميرو”، لكونه يعيش في الكهوف والأعماق ويصعب تتبعه كما يقول خبراء المعهد الوطني للبحث في الصيد بسبب قلة الإمكانات اللوجستيكية من كاميرات عالية الدقة، فإن “لصوص الميرو” من غطاسين وصيادين عشوائيين لايزالون يستغلون هذه الهفوة، إلى جانب فراغ قانوني بخصوص هذا النوع من السمك بالأساس، والذي يندرج صيده بخصوص الصيد الترفيهي فقط، أو قانون متعلق بتحديد شروط وإجراءات تسليم وتجديد رخص الصيد في المنطقة الاقتصادية الخالصة الذي يبقى مرسوما وزاريا فقط، حيث تتعلق هذه المنطقة بالموانئ الترفيهية بسواحل المغرب، التي تجمع مابين اقتصادي صرف وترفيهي يتمثل في الصيد.
إذ لايوجد بالمغرب قانون خاص ومفصل بخصوص سمك “الميرو”، باستثناء مرسوم وزاري يحدد الراحة البيولوجية لبعض الأنواع من الأسماك، وضمن خانته هذا النوع من السمك، الذي يمنع صيده انطلاقا من فاتح كل شهر يوليوز إلى غاية نهاية شهر شتنبر من كل سنة، لتزامنها مع فترة التوالد.
في مقابل غياب ترسانة قانونية محددة لهذا النوع بالضبط، نجد المشرع المغربي، قام بتكييفها مع قانون صدر مؤخرا، ضمن مرسوم وزاري يحدد شروط ممارسة الصيد الترفيهي بشكل شخصي أو جماعي.
ويتضمن باب العقوبات الحبس لمدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة وبغرامة من 5000 درهم إلى 1.000.000 درهم.
كما ينص نفس القانون، أنه ” يعاقب الشخص بإحدى هاتين العقوبتين، كل من اصطاد الأصناف البحرية غير المبينة في رخصة الصيد أو حاول اصطيادها أو عمل على اصطيادها، أو الذي لا يحترم البيانات المنصوص عليها في رخصة الصيد”. وتطال العقوبة نفسها، كل من اصطاد الأصناف البحرية التي لا تبلغ الطول الأدنى أو الحجم القانوني أو عمل على اصطيادها أو احتفظ بها أو نقلها أو اشتراها أو باعها خرقا لأحكام القانون أو تجاوز نسبة العتبة المسموح بها المحددة للأصناف المعنية.
إن القانون الذي يستهدف الترفيه، ويدخل ضمنه الغطس لايمنع الصيد، بل يشترط على صاحب الرخصة مبلغا ماليا قدره 250 درهما في السنة، لكن هذا القانون يعتبر فضفاضا لغياب تشريع واضح ومنصوص عليه من حيث المصطادات، ولهذا فإن كل غطاس يكفي أن يملك رخصة ويتجه للصيد دون الاكتراث لمراحل الراحة البيولوجية، إلى جانب غياب دوريات خاصة لمراقبة هذا النوع من الصيد بالمغرب.
كما أن مندوبيات الصيد وهي الممثلة لوزارة الصيد البحري بالمغرب كجهة حكومية عبر مختلف النقاط البحرية، لا يتجاوز نطاقها الموانئ وتسليم الوثائق الإدارية ومراقبة مراكب وقوارب الصيد بالموانئ.
أما بالنسبة للشواطئ وغيرها فيتم تكليف عناصر القوات المساعدة التابعة لوزارة الداخلية وهي غير عارفة بهذه القوانين وغير مدربة عليها، ويشمل دورها فقط مراقبة التهريب والهجرة السرية لا غير والاطلاع على الرخصة التي بحوزة الغطاس أو الصياد في حال الصيد الليلي.
أما بخصوص التدقيق في المصطادات ومنع الصيد العشوائي، ومعرفة أوقات الراحة البيولوجية، ورغم كونها ضمن اختصاصاتها الإدارية، إلا أن الفراغ القانوني لايزال سيد الموقف، ولهذا نبه مصطفى مزروع المهني البحري بمنطقة واد لاو إلى جانب إجماع مختلف من صادفناهم خلال إنجاز هذا التحقيق، إلى ضرورة تدخل هذه السلطات المكلفة بحماية الشواطئ لتطبيق القانون بحذافيره وعلى رأس هذه السلطات وزارة الداخلية، ولحماية هذا النوع من السمك من الانقراض بسبب الصيد العشوائي الذي يتعرض له وفي عز راحته البيولوجية المخصصة لفترة التوالد .
* تم إنتاج هذا التحقيق بدعم من شبكة صحافة الأرض التابعة ل”إنترنيوز” كجزء من “مبادرة الإعلام المتوسطي “