غرفة الصيد البحري المتوسطية – طنجة
هناك دائما حاجة إلى طرح سؤال إلى أين يتجه قطاع الصيد البحري؟ وهل تم استكمال كل العناصر المطلوبة في النهوض بهذا القطاع؟
عادة، وفي أي مشروع نهوض بأي قطاع، يتم البدء أولا بوضع استراتيجية شاملة ومندمجة، تتضمن الأولويات الكبرى، والأهداف الوسيطة والإجرائية، ومجمل السياسات التي تطلب تنزيلها، ثم تأتي في الدرجة الثانية القوانين والقرارات التي تسعى إلى أجرأة هذه السياسات وتنزيل هذه الأولويات، وتأتي في المرحلة الثالثة عملية التقييم التي تركز بشكل أساسي على مدى توفق هذه القوانين والقرارات في تحقيق هذه الاستراتيجية، والدور الذي تقوم به الإدارة في مواكبة الاستراتيجية وفي التعامل مع القوانين والقرارات، والتفاعل مع المعطيات الجديدة التي لم تتوقعها لا الاستراتيجية الكبيرة الموضوعة، ولا القوانين والقرارات التي تم سنها أو اتخاذها في مثال الصيد البحري، يمكن القول بأننا تخطينا المرحلة الأولى بنجاح، ووضعنا مخططا استراتيجيا ضخما لا ينازع أحد بأن أثره سيكون بعيدا وعميقا وإيجابيا في النهوض بهذا القطاع، إذ وضع الأسس والسياسات الاستراتيجية للنهوض بالقطاع كما وضع المعادلات الدقيقة التي توازن بين المقتضيات الإنتاجية وبين حماية البيئة.
وكما تخطينا مشكل الافتقار إلى رؤية بعيدة استراتيجية بمخطط أليوتيس، فقد تجاوزنا أيضا مرحلة وضع السياسات، إذ ساعدت التجربة والتراكم الذي تمتلكه الكتابة العامة للوزارة في تيسير هذه الخطوة وجعل المخطط الأزرق “أليوتيس” ممكن التحقق من غير أن تحدث ردود فعل معارضة من طرف المهنيين، بل بدت هناك مساحة كبيرة من التفهم ومحاولة ملأ الفجوة بين ما يتطلبه مخطط أليوتيس وبين الإمكانات المتوفرة.
بمعنى من المعاني، إن المشكلة اليوم، ليست لا على مستوى الاستراتيجية الحاكمة، ولا على مستوى السياسات والقرارات التي تنتجها وتتخذها الوزارة، إنما المشكلة تطرح في مستوى ثالث، وهي عادة ما تمثل الحلقة الأضعف في أي مشروع، أي الإدارة.
لا نحتاج أن نذكر بأن الإدارة تمثل رأس الرمح في أي سياسة، وأن أي ضعف منها في الاستيعاب، أو فهم للقوانين ضدا على روحها، أو عجز عن حل المشاكل التي لم يرد نص قانوني بشأنها، أو تصلب في تطبيق حيثيات قانونية من غير مراعاة آثارها، كل ذلك، من شأنه أن يجعل الإدارة عقبة اساسية أمام تنزيل الرؤية الاستراتيجية التي تضمنها مخطط “أليوتيس”.
الإدارة هي التي توكل إليها مهمة تطبيق القانون، ومواكبة السياسات وتنفيذ القرارات في الميدان، والتفاعل والاحتكاك المباشر مع المهنيين، ورؤية المشاكل على أرض الواقع، والمعرفة الدقيقة بمدى ملاءمة القوانين من عدمه، وهي التي تدرك حجم المشاكل التي لا توجد نصوص قانونية لحلها، بل وتعلم أيضا نقاط الضعف في بعض القوانين، وتقف أحيانا كثيرة على عجز المشرع عن استيعاب كل النوازل، أو عدم قدرته على فك الارتباط بين حالات تبدو في الظاهر متشابهة لكنها في الحقيقة مختلفة ومتباينة.
طبعا هذا لا يطرح إشكالا في حالة دخول مخطط ما زمنا طويلا من التجربة، لأن المسار الطويل من التجربة يجعل صناع السياسات والقرارات ينزعون من يد الإدارة الصفة البيرقراطية التي تعرقل تنزيل المخطط، لكن في مثل حالة “أليوتيس”، الذي تم الشروع في تنزليل مقتضياته بشكل متدرج، فإن الثقل يقع بكامله على الإدارة في حالة عدم قدرتها على مواكبة هذا الإصلاح الكبير والوعي بمتطلباته.
المطلوب اليوم من الإدارة، أن تضع في اعتبارها أن مهمتها الأولى ليست فقط هي تطبيق القانون، وإنما مهمتها الأولى هي إنجاح مخطط “أليوتيس”، بما يعنيه ذلك، من الوعي بضرورة مصاحبته ومواكبته ورفع العراقيل من طريقه حتى ولو كانت قانونية، والاجتهاد في حل المشاكل التي لا وجود لنص قانوني لحلها، وذلك بالتوقف عن استعمال حجة “لا نستطيع فعل أي شيء لأن القانون لا يتحدث عن ذلك”.
الإدارة لم توضع فقط لتطبيق القانون، وإنما جعلت أداة لمساعدة المشرع على معرفة نقاط الضعف في القوانين الموجودة والتي تحول دون نجاح السياسات والقرارات، والتفاعل المباشر مع المهنيين والاستماع إلى وجهات نظرهم ومقاسمتهم همومهم ومشاكلهم، وحفز المشرع على تدارك الأمر بتجديد السياسات القائمة واتخاذ القرارات المناسبة لتكون في أحسن مستوى لضمان التنزيل الأفضل لمخطط “أليسوتيس”.
ينبغي أن لا نتردد اليوم في القول، بأن المشكلة توجد في الحلقة الثالثة، في الإدارة التي للأسف لا تقوم إلا بالمهمة الروتينية الرتيبة، التي تتمثل في التطبيق الحرفي للقوانين في القضايا المعروفة وتبني عقلية عدم تحمل المسؤولية في المساحات التي لا يؤطرها القانون، أما ما سوى ذلك، مما هو مجالها الحيوي، مما يرتبط بمواكبة الإصلاحات وتوفير الشروط الأفضل لنجاحها وتنبيه الوزارة إلى مكامن الاختلال في بعض السياسات أو في بعض القوانين، أو حمل الهموم المعقولة للمهنيين إلى صناع القرار، فالإدارة بعيدة كل البعد عن استلهام هذه الأدوار المركزية التي لا غنى عنها في نجاح أي إصلاح.
بكلمة بسيطة ومختصرة، لدينا استراتيجية نوعية لا جدال في أنها السبيل للنهوض بقطاع الصيد البحري، ولدينا وزارة تمتعت كتابتها العامة بما يكفي من الخبرة والتمرس لاتخاذ القرارات المناسبة التي تنزل بشكل جيد هذا المخطط. الدور الآن على المديريات لتنخرط في هذا المخطط وهذه السياسات لتواكبها بما يلزم من الاستيعاب والتفهم والمسايرة والتفاعل الإيجابي مع المهنيين.
نأمل، أن تتحرك هذه الحلقة الثالثة بفعالية، وأن تبذل الإدارة جهدا في مواكبة ما تحقق من تغير في الحلقتين السابقتين، وأن تدرك أن نجاح الإصلاح لا يمكن أن يتحقق فقط بالاستراتجيات ولا بالسياسات والقرارات، ولكن أيضا وبدرجة أولى بإدارة فعالة وناجعة في مصاحبة ومواكبة هذه الإصلاحات.
السيد: يوسف بنجلون
رئيس غرفة الصيد البحري المتوسطية