كلمة السيد يوسف بنجلون مستشار فريق العدالة والتنمية بمجلس المستشارين حول قطاع الفلاحة.

img228112015

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد الوزير
السيد رئيس اللجنة
السادة المستشارين

لا أريد من تدخلي أن يأخذ بعدا تقنيا، يحصر مجال اهتمامه في تقييم ما تم إنجازه، وملاحظة بعض جوانب النقص التي تستوجب الاستدراك، ولا حتى إبداء بعض الملاحظات الأولي على ما تنتوي الوزارة فعله، سواء في سياق تنفيذ المخطط الأخطر وما يستوعبه من مشاريع قطاعية تندرج ضمن الدعامتين الأساسيتين لهذا المخطط. فمثل هذه القضايا لا تكتسب أهميتها إلا ضمن سؤال مركزي يتعلق بأفق وسقف النهوض بالفلاحة بالمغرب، أو بالتحديد ماذا يريد المغرب من خلال النهوض بالفلاحة؟ أي بلغة مختصرة، أريد لتدخلي أن يتضمن مناقشة الفلاحة في سياق وطني استراتيجي لأن المهم – في نظري- ليس هو رصد ما تحقق والانتباه إلى أوجه القصور، فهذا عمل روتيني يرافق السياسات العمومية كيفما كان نوعها. لكن في حالة الفلاحة، فالسؤال الذي ينبغي أن نصرف الاهتمام للإجابة عنه، هو إلى أي حد اندرجت السياسات العمومية في مجال الفلاحة ضمن استراتيجية وطنية لا تكتفي فقط بالجواب عن سؤال الأمن الغذائي؟ وإنما تتعداه لما هو أشمل من ذلك مما يتعلق بتقوية الاقتصاد الوطني ودعم تنافسيته، وتحويل الإمكانات الفلاحية التي يتوفر عليها المغرب إلى ورقة رابحة في استراتيجية الامتداد الجيوستراتيجي في إفريقيا، واستثمار الإمكان الإنتاجي بمختلف أنواعه في تقوية العلاقات المغربية الخارجية ودعم مواقع الدبلوماسية المغربية الخادمة لملف وحدتنا الترابية.

السيد الوزير
السيد رئيس اللجنة
السادة المستشارين

الفلاحة وأفق الأمن الغذائي:

لقد شكلت الفلاحة منذ الاستقلال الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد المغربي، إذ وصلت في بعض السنوات مساهمة الفلاحة في الناتج الوطني حوالي 19 في المائة، وكان تحقيق الأمن الغذائي هدفا مركزيا لكل السياسات التي اعتمدها المغرب، بدءا ببناء السدود لتوفير مياه السقي والتقليص من الارتهان للعوامل المناخية (الجفاف) ومرورا بالتسهيلات والامتيازات التي قدمت للاستثمار في المجال الفلاحي (أراضي صوديا سوجيتا، والإعفاءات الضريبية إلى حدود السنة المالية 2014 بالنسبة للفلاحين الكبار، منح الموظفين في القطاع العام الحق في الاستثمار في المجال الفلاحي..)، غير أن هذه الإجراءات، وإن حققت أقدارا مهمة في سلم تحقيق الأمن الغذائي، إلا أنها لم تحرر الفلاحة من الارتهان إلى العوامل المناخية، بل ساهم التعقيد والتعدد الذي تعرفه الأنظمة العقارية، وكذا صغر المساحات المستغلة فلاحيا، والمشاكل المرتبطة بتنافسية الفلاحة الوطنية، ساهم ذلك كله في محدودية الإنتاج الفلاحي بالقياس إلى الأهداف المعلنة، وفي قمتها تحقيق الأمن الذاتي.

لكن، مع استرتيجية المخطط الأخضر، تم الالتفات إلى جوانب قوة أخرى تنضاف إلى السياسات السابقة التي تم اعتمادها، إذ تم التركيز في هذا المخطط ضمن دعامته الأولى على قضية تقوية سلاسل الإنتاج عبر آلية التجميع وتحديث وعصرنة القطاع مع الاهتمام في الدعامة الثانية بفكرة المشاريع التضامنية التي تهم الفلاحين الصغار بالإضافة إلى المشاريع الأفقية، فاستوعبت الفلاحة العصرية 946 مشروعا بتكلفة استثمارية تناهز 75 مليار درهم، ممولة أساسا من طرف الخواص، وضمت الفلاحة التضامنية 545 مشروعا تخص صغار الفلاحين بتكلفة استثمارية تناهز 25 مليار درهم، ممولة أساسا من قبل الدولة، أما المشاريع الأفقية فقد فاق غلافها الاستثماري 40 مليار درهم، وهو ما جعل إنتاج الحبوب مع السنة المطيرة.

هذا وقد تميز الاهتمام بسلاسل الإنتاج عبر آليات التجميع وعقود البرامج الموقعة بين الوزارة والمهنيين بمختلف تشكيلاتهم إلى الرفع من إنتاجية الدواجن واللحوم الحمراء والزيتون والبذور والتمور والبواكر والألبان والمنتجات المحلبة والحبوب والحوامض والسكر، وهو ما كان له أثر كبير على مستوى تحقيق الأمن الغذائي في المغرب إذ تقلصت نسبة الاستيراد بشكل كبير من هذه المنتجات.

ومع النتائج الإيجابية التي حققها المخطط الأخضر بخصوص هذا الهدف الاستراتيجي، إلا أن هناك مساحات كبيرة للتحرك ما زالت تحتاج إلى تضافر الجهود من أجل ملأها، سواء على مستوى توسيع مساحات السقي، أو تيسير شروط التحديث والعصرنة أو توسيع البنية الإنتاجية من خلال إدماج مختلف أشكال الفلاحة الصغرى في المشاريع الإنتاجية الاستراتيجية.

ولذلك، فالمطلوب ضمن سياق التقييم، أن يتم وضع الإجراءات التي جاء بها المخطط الأخضر ضمن هذا الهدف الشمولي المتعلق بالأمن الغذائي، وتحديد السلاسل التي تم فيها بلوغ هذا الهدف، والسلاسل التي لا تزال تعاني من نقص شديد، ولم لا، التفكير في سلاسل أخرى لا تزال ترهق الميزان التجاري بسبب الحاجة إلى استيرادها بالعملة الصعبة.

الفلاحة وأفق تقوية الاقتصاد الوطني التنافسي:

لا نحتاج سيدي الوزير، السيد رئيس اللجنة، السادة المستشارين أن نذكر بمساهمة الفلاحة بنحو 14 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وكونها تشكل المصدر الأول للتشغيل، وتؤمن مصدر العيش لأكثر من 75 بالمائة من سكان القرى، وكونها كما سبقت الإشارة في فقرة سابقة، تتحمل مسؤولية تأمين الأمن الغذائي للمغاربة وذلك بنسب جد هامة.

لا نحتاج إلى ذلك، فاعتماد الاقتصاد المغربي على الفلاحة قضية استراتيجية وحيوية، لكن، ما نود الإشارة إليه، وهو العلاقة التي تربط تحقيق هدف الأمن الغذائي، وبين تحقيق هدف الرفع من إسهام الفلاحة في الناتج الخام الداخلي، ذلك أن السعي نحو تقوية التصدير وإلى تقليص مساحة الاستيراد، لا يعني فقط المساهمة في تقوية الاقتصاد الوطني عبر النقص من نسبة العجز التجاري، ولكنه يعني أيضا خلق بنيات إنتاجية قوية تتمتع بقدرات تنافسية كبيرة وتقوية التصدير إلى الخارج عبر خلق أسواق مستقرة لاستيعاب المنتجات الفلاحية المغربية، كما يعني من جهة ثانية، خلق فرص شغل جديدة في سلاسل إنتاج الموجودة أو سلاسل الإنتاج الجديدة، كما تعني من جهة ثالثة، خلق شروط الاستقرار في العالم القروي لاسيما مع المشاريع التنموية الجديدة التي تستهدف العالم القوي عبر آلية صندوق تنمية العالم القوي.

في هذه السنة، أكدت بيانات مكتب الصرف أن انخفاض مشتريات القمح ساهم في التخفيف من العجز التجاري، إذ انخفضت المشتريات في النصف الأول من العام الجاري بنسبة 31.8 %، لتصل إلى 620 مليون دولار، بعدما تجاوزت 880 مليون دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي.

لكن، ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الصدد، هو أن التخفيف من العجز التجاري تزامن مع سنة مطيرة، مما يعني استمرار حالة ارتهان الفلاحة للتقلبات المناخية، مما يتطلب معه – كما أشرنا في الفقرة السابقة- أن يتم توجيه الاستراتجية والسياسات العمومية في الفلاحة لمزيد من التحرر من ضغط التقلبات المناخية لاسيما وأن الإمكانيات موجودة، وتوسيع مساحات السقي ممكنة، وترشيد الموارد المائية بات أولوية من الأولويات الوطنية.

لقد انضافت هذه السنة مساهمة أخرى للفلاحة في دعم موارد الدولة المالية عبر تضريب فئة الفلاحين الكبار، لكن، هذه السياسة الجديدة التي اعتمدتها الحكومة يلزم أن تصاحب بالتقييم اللازم، سواء لأثر التضريب على موارد الدولة أو أثر التضريب على سلاسل الإنتاج، أو أثر التضريب على آلية التجميع التي جاء بها المخطط الأخضر نفسه لتقوية البنيات الفلاحية وتحديثها وعصرنتها، لاسيما وأن الإجراءات الضريبية اعتمدت سقف رقم معاملات يعادل أو يفوق 35 مليون درهم.

الفلاحة كخادم لموقع المغرب في محيطه الدولي:

لقد ظل المغرب لفترة طويلة يمثل شريكا تجاريا مهما للاتحاد الأوربي، واكتسب صفة الوضع المتقدم في علاقته مع أوربا بفضل النموذج الديمقراطي والتنموي الذي انتهجه، وشكلت المنتجات الفلاحية وكذا منتجات الصيد البحري الرقم الأهم في التعامل التجاري مع أوربا، لكن الصعوبات الأخيرة التي واجهها المغرب مع الاتحاد الأوربي بسبب إقدام بعض الدول الأوربية على الضغط للتنصل من الاتفاقات التي حصلت مع المغرب وما لحقه من مفاوضات عسيرة وضع فيها المغرب بذكاء المنتجات الفلاحية ومنتجات الصيد البحري في مسار واحد، هذه الصعوبات باتت تفرض أن يتجه المغرب للبحث عن أسواق جدية لتقوية موقعه في المحيط الدولي، وفي هذا السياق، لا بد أن نشير إلى التوجه الاستراتيجي نحو إفريقيا والإمكانات الهائلة التي أتاحها للمغرب لتوجيه منتجاته الفلاحية إلى دول غرب إفريقيا، كما أن حملات التسويق (المعارض) التي اعتمدتها وزارة الفلاحية في كل من برلين وروسيا هذا فضلا عن المعرض الدولي للفلاحة في مكناس والذي يستضيف كما هائلا من المستثمرين الأجانب، هذه الحملات تلعب دورا مهما في تنويع الأسواق وتقوية الصادرات، وتقوية العلاقات التجارية المغربية.

لكن، هذه الجهود في نظرنا لا تزال تفتقد إلى قدر كبير من الفعالية، وذلك أولا بسبب ضعف الدبلوماسية المهنية وعدم وجود تناغم بينها وبين الدبلوماسية الحكومية، ثم ثانيا بسبب عدم الانفتاح على أسواق أخرى مثل السوق العربية مثلا إذ لا تشكل المنتجات الفلاحية في العلاقات التجارية العربية وكذا في اتفاقيات التجارة الحرة سوى نسبة جد قليلة، ثم ثالثا، بسبب ضعف آليات التسويق، فلا زالت الاستراتيجية التي يشتغل بها مكتب التصدير محدودة في أفقها، ثم رابعا بسبب ضعف الأسطول المغربي في الملاحة التجارية.

وعلى العموم، فالمطلوب اليوم إجراء تقييم أفقي وعمودي للجهود التي بذلها المغرب لتنويع أسواقه الخارجية، والبحث عن الأعطاب التي تمنع اختراق منتجاته الفلاحية لمجموعة من البلدان لاسيما وأن هذه المنتوجات تتمتع بجودة عالية تستجيب للشروط الدولية، ومحاولة وضع خطة وطنية تشاركية بين مختلف الفاعلين لتوسيع الأسواق الخارجية ودعم موقع المغرب في محيطه الدولي.

وفي هذا السياق لا بد أن ننوه بالسياسة الذكية التي انتهجتها الوزارة في التفاوض مع الاتحاد الأوربي عند أزمة تصدير المنتجات الفلاحية، والاستثمار الذكي للتفاوض على الصيد البحري، والدلالة السياسية الرمزية التي حملها الاتفاق وأثره على ملف الوحدة الترابية، كما ننوه بالدبلوماسية الهجومية التي اعتمدها المغرب ضد السويد بسبب قرارها إخضاع المنتجات المغربية لمعيار وضع مصدر الإنتاج ضمن أوراق اعتماد هذه المنتجات، وما رافقه من رفض للاتحاد الأوربي للتمييز بين المغرب ومناطقه الصحراوية في التعامل مع المنتجات الفلاحية، وهو ما يشكل انتصارا دبلوماسيا مهما لعبت فيه الفلاحة دورا مركزيا.

تنمية المناطق القروية :

السيد الوزير
السيد رئيس اللجنة
السادة المستشارين

يعلم الجميع اليوم أن النهوض بالفلاحة وتحديثها وعصرنتها والنهوض بسلاسل إنتاجها لا يمكن أن يتم من غير تنمية العالم القروي نفسه، ومده بشروط الاندماج في الحياة العصرية، وتمكينه من الخدمات الاجتماعية التربوية والتعليمية والصحية. وفي هذا الصدد لا يسعنا إلا نبارك الخطوة الجبارة التي اعتمدها صاحب الجلالة بإصدار تعليماته للحكومة بتخصيص مبلغ 50 مليار درهم لتنمية العالم القروي.

لا أريد هنا السيد الوزير، السادة المستشارين، أن أدخل في الجدل الذي أثارته الصحافة حول صندوق التنمية القروية وأهليته لاستقبال هذا المورد المالي المهم، فقد كان المفترض من الحكومة أن تنتبه إلى أهمية الخطاب الملكي وتتجاوب على وجه السرعة معه باعتماد آلية لتصريف هذه الاعتمادات، وفي ظل غياب هذه الآلية، يبقى صندوق التنمية القروية الآلية الوحيدة الموجودة للقيام بهذه المهمة، لأن الطبيعة تأبي الفراغ. ومن ثمة فاعتقادي أن إثارة الجدل حول هذه المسألة في ظل هذه الحيثيات من شأنه التشويش على الخطوة الكبيرة التي يعتزم المغرب تنفيذها بخصوص رفع التهميش عن العالم القروي.

وإذ ننوه بكفاءة وزارة الفلاحة وخبرتها في تنمية القطاع الفلاحي لسنوات خلت، نذكرها بضرورة اغتنام الفرصة، والتوجه لإحداث قطيعة أو طفرة في النظر إلى تنمية العالم القروي، والاعتكاف لبلورة مشروع استراتيجي في حجم المخطط الأزرق أو المخطط الأزرق لتنمية العالم االقروي والنهوض به.

 

أضف تعليق